لا ننوى الدخول فى مزايدات ومناقصات حول اتفاق وقف إطلاق النارعلى الجبهة اللبنانية ، فالفصوص دائما أبلغ من النصوص ، وأغلب نقاط الاتفاق الجديد تكرار لالتزامات الطرفين بمقتضى قرار مجلس الامن رقم 1701 ، الذى توقفت بموجبه حرب 2006 ، ربما الذى اضيف هذه المرة نقاط من نوع تشكيل لجنة مراقبة متعددة الأطراف بقيادة أمريكية ، إضافة لما نص عليه الاتفاق من “حق الدفاع المشروع عن النفس” المكفول للطرفين اللبنانى و”الإسرائيلى” ، وهو ما يرجح أن تستخدمه “إسرائيل” مسوغا لتكرار العدوان فى أى وقت ، خصوصا أن نقطة مهمة فى الاتفاق ، تتعلق بترسيم الحدود البرية بين لبنان وكيان الاحتلال ، جرى ترحيلها إلى مفاوضات لاحقة ، يفترض أن تجرى “بتسهيل” من واشنطن ، والمعروف أن خط الحدود الموقوت يعرف بتسمية “الخط الأزرق” ، ووراء الخط مناطق لبنانية لم تنسحب منها “إسرائيل” ، بينها قرية الغجر ومزارع شبعا وتلال شوبا ، وكان منصوصا على مبدأ الانسحاب فى القرار 1701 ، لكن العدو لم يلتزم ولا نفذ المطلوب.
والأهم ـ طبعا ـ من النصوص والأوراق ، هو الفصوص وتوازن القوى الفعلى على الأرض ، وقد لا توجد ضمانات لتنفيذ أغلب نقاط الاتفاق ، ربما باستثناء عناصر المدى القريب خلال شهرين ، أى الانسحاب التدريجى المتبادل لقوات الاحتلال وقوات “حزب الله” المنظورة من مناطق جنوب “الليطانى” ، أما مراقبة الحدود والأجواء والمعابر ومصانع السلاح والأنفاق وغيرها ، فتلك كلها التزامات مكتوبة على “حزب الله” ، ولا مقدرة لطرف على فرضها ، فليس من منشآت عسكرية لحزب الله فوق الأرض ، وخلال 18 سنة فصلت بين حرب 2006 وحرب 2004 ، كان يقال أن حزب الله غادر جنوب “الليطانى” ، وأن قوات الجيش اللبنانى وقوى الأمن الداخلى استلمت المواقع والأسلحة ، وأن قوات الطوارئ الدولية “اليونيفيل” تراقب ما يجرى بحضورها وأبراجها ، ولم يكن بوسع أحد ، أن يتيقن من غياب “حزب الله” فى الجنوب ، ولا ردع الانتهاكات “الإسرائيلية” ، وقد بلغ عددها 34 ألفا ، سجتلها الحكومات اللبنانية فى دفاتر شكاوى مرفوعة إلى مجلس الأمن الدولى ، ولكن من دون اتخاذ أى إجراء رادع ، وأغلب الظن ، أن ذلك أو مثله سيحدث ويتواتر هذه المرة أيضا ، فلم يتوقف كيان الاحتلال أبدا عن العدوان على لبنان ، حتى قبل إنشاء وإعلان هذه “الإسرائيل” ، وتكررت المجازر الصهيونية ، وبالذات فى قرية “حولة” اللبنانية عامى 1936 و 1949 بعد اتفاق الهدنة ، ثم فى أواخر ستينيات القرن العشرين ، وفى اجتياحات 1978 و 1981 و 1982 ، قبل أن يكون هنال وجود لحزب الله ومقاومته المسلحة ، التى خاضت حروبا ومواجهات كبرى مع الاحتلال فى 1993 و 1996 حتى تحرير الجنوب فى 25 مايو 2000 ، ودونما نجاح لكيان الاحتلال فى نزع سلاح “حزب الله” حتى بعد حرب 2006 ، ولأسباب عملية جدا ، بينها أن قوات “حزب الله” ليست ظاهرة للعيان ، ثم أن قوات “حزب الله” فى الجنوب لا ترتدى لباسا خاصا ، وأغلب مقاتلى الحزب هناك من أبناء سكان الجنوب ، الذين تدفقوا إلى قراهم المدمرة كليا على خط المواجهة الأمامى فور البدء بسريان وقف النار ، وكانت تدفقات عودة النازحين زاحفة فى الضاحية الجنوبية ، وفى “صور” و “بعلبك” وكل نواحى البقاع ، وبدت العودة الفورية المفاجئة مثيرة لقلق قوات الاحتلال ، التى أطلقت نيرانها لتخويف جموع العائدين ، وهم يرفعون أعلام لبنان وأعلام “حزب الله” ، وهو ما يظهر الحيوية الفائقة لجماهير “حزب الله” وبيئته “الشيعية” الحاضنة ، إضافة لفاعلية الإطارات التنظيمية للحزب ، الذى تعرض لضربات ثقيلة موجعة ، وتعرضت جماهيره لآلاف الغارات الجوية ، ولدمار مفزع لحياة البشر والحجر ، ونزح نحو المليون ونصف المليون إلى مناطق لبنانية حليفة ، ورغم كل هذا الدمار والفقد ، الذى قدرت الحكومة اللبنانية خسائره وكلفة إعادة إعماره بأكثر من ثمانية مليارات دولار ، إضافة لضياع أرواح نحو أربعة آلاف لبنانى ، خلال حرب امتدت لنحو أربعة عشر شهرا ، وجرح وإصابة أضعاف أرقام الشهداء ، واغتيال كل قادة الصف الأول من “حزب الله” ، وعلى رأسهم الشهيد الجليل “السيد حسن نصر الله” ، ومع كل هذه الضربات الكفيلة بتدمير دولة بكاملها ، نجح “حزب الله” فى استعادة تماسكه بسرعة قياسية ، واستمر فى خوض الحرب ، التى بلغت ذروتها قبل شهرين من وقف إطلاق النار ، ونجح فى إلحاق تدمير مؤثر على جانب العدو “الإسرائيلى” ، وبلغ عدد الصواريخ والمسيرات الانقضاضية التى أطلقها طوال مدة الحرب أكثر من 22 ألفا ، بينما كان العدد المماثل فى حرب 2006 أقل من أربعة آلاف ، مع فوارق التطور ، وفى الأيام السابقة على وقف إطلاق النار ، خاصة فى يوم الأحد 24 نوفمبر 2024 ، وصلت مئات الصواريخ والمسيرات إلى كل مكان تقريبا من الكيان ، إلى “نهاريا” و”حيفا” وما بعد “حيفا” ، وإلى قلب “تل أبيب” وصولا إلى القاعدة البحرية فى ميناء “أشدود” جنوبا ، وبمديات متوسطة وبعيدة ، زادت إلى نحو مئتى كيلومتر من جنوب لبنان ، فوق مضاعفة حجم الدمار فى عشرات المستعمرات شمالا ، وإلى حد قدرت الدوائر “الإسرائيلية” تكلفته بخمسة مليارات دولار على الأقل ، إضافة للإذلال الذى تعرضت له قوات الاحتلال ومدرعاتها ودباباتها فى العملية البرية بجنوب لبنان ، التى لم تنجح بمرحلتيها الأولى والثانية عبر شهرين سوى فى اختراقات محدودة ببعض قرى الحافة الجنوبية ، بلغ أقصاها بضعة كيلومترات ، وهو ما دفع رئيس وزراء العدو “بنيامين نتنياهو” إلى الإعلان عن الحاجة إلى “إنعاش” الجيش ، بعد أن تعرض لإنهاك غير مسبوق على جبهة “غزة” أولا ، ثم على جبهة لبنان ، وبدا تدهور قدرات الجيش “الإسرائيلى” دافعا أول لقبول وقف إطلاق النار ، الذى قيل أن واشنطن وباتفاق “جو بايدن” الرئيس المنصرف و”دونالد ترامب” الرئيس المنتخب ، سارعت إلى تدبيج مسودة اتفاق وقف الحرب ، بينما الحقيقة البادية للعيان ، أن حكومة “نتنياهو” ، هى التى ضغطت على واشنطن لإتمام الصفقة ، بعد أن أظهرت حوادث المنازلة الحربية فشل “إسرائيل” عسكريا ، وعجز جيش الاحتلال عن تحقيق أى نصر ، أو إلحاق الهزيمة بقوات “حزب الله” ، فلم يهزم الحزب ولا انتصرت “إسرائيل” ، وكل ما حاولته “إسرائيل” وواشنطن ، أن تكسب بالتفاوض ما عجزت عنه بالحرب ، وأن يسعى المبعوث الأمريكى “آموس هوكستين” ، وهو الضابط “الإسرائيلى” أصلا ، إلى إقناع الحكومة اللبنانية بقبول وقف الحرب ، مع إعطاء ورقة ضمانات جانبية لحكومة الكيان ، تؤكد دعم واشنطن ـ كالعادة ـ لأى اعتداءات “إسرائيلية” لاحقة على لبنان .
وقد يقال ، أن “إسرائيل” حققت نجاحا بالاتفاق ، تفاخر به “نتنياهو” نفسه ، وهو فصل ساحات المقاومة ، وإخراج “حزب الله” من حالة التضامن الحربى مع “حماس” وأخواتها فى حرب “غزة” ، وكسر تعهد “السيد حسن” بمساندة “غزةط إلى النهاية ، وقد يكون فى ذلك بعض الصحة الظاهرة ، وإن كانت حركة “حماس” نفسها ، بادرت إلى إعلان استمرار تعاونها مع “حزب الله” ، وحاذرت من الوقوع فى فخاخ الفتنة ، فحركة “حماس” التى تقاتل بضراوة فى “غزة” موجودة أيضا فى لبنان ، وتمارس نشاطها فى أوساط نصف مليون فلسطينى بالمخيمات ، ومجالات التعاون بين الطرفين كثيرة ، ثم أن المقاومة الفلسطينية تتفهم الظروف بالغة التعقيد فى الساحة اللبنانية ، وتعرف أن أطرافا لبنانية كثيرة متورطة مع “إسرائيل” وواشنطن ، ولم تخف ضيقها لوقف حرب العدو ضد “حزب الله” ولو مؤقتا ، وكانت تطمع فى التصفية التامة لحزب الله ، ونزع سلاحه بالكامل ، ليس فقط فى جنوب “الليطانى” ، بل فى كل لبنان ، وهو جدال قائم من عقود ، يريد زج الجيش اللبنانى فى صدام مع حزب الله ، وهو الأمر غير القابل للتحقق لحسن الحظ ، خصوصا بعد الصمود الأسطورى لقوات “حزب الله” فى الدفاع عن لبنان، فتركيب الجيش اللبنانى شديد الحساسية ، وموازينه الداخلية موزعة بحساب دقيق بين الطوائف ، ودخوله ـ لاقدر الله ـ فى صدام مع “حزب الله” وخيم العواقب ، وقد يؤدى إلى تفكيك الجيش نفسه ، ثم أن ضباط وجنود الجيش كانوا هدفا مباشرا لعدوان الاحتلال ، وارتقى منهم عشرات الشهداء ، وهو ما يدفع الأطراف اللبنانية ذات الهوى “الإسرائيلى” ، إلى طلب نجدة تل أبيب وواشنطن ، وقد جرى ذلك كثيرا من قبل ، ومن دون أن تنجح المؤامرات فى إشعال حرب أهلية لبنانية جديدة ، وإن لم يحل ذلك دون تكرار التآمر وبث الرعب ، وما من ضمان لسلام لبنان الداخلى ، بغير حماية سلاح المقاومة ، ومواصلة سيرة تعاونها الظاهر والضمنى مع الجيش اللبنانى .
Kandel2002@hotmail.com