لواء دكتور سمير فرج :هنري كيسنجر وسياسة الطبق الساخن

لواء دكتور سمير فرج :هنري كيسنجر وسياسة الطبق الساخن

 

لواء دكتور/ سمير فرج

هنري كسينجر هو من أهم الشخصيات السياسية في العالم، وهو وزير الخارجية الوحيد الذي نال جائزة نوبل للسلام حول جهوده لإخراج الولايات المتحدة من مستنقع فيتنام. وهو سياسي ودبلوماسي، شغل منصب وزير خارجية الولايات المتحدة ومستشار الأمن القومي الأمريكي في ظل حكومة الرؤساء ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد. هو لاجئ يهودي هرب مع عائلته من ألمانيا النازية عام 1938، أصبح مستشار الأمن القومي في عام 1969 ووزير الخارجية الأمريكي في عام 1973. بسبب إجراءاته في التفاوض لوقف إطلاق النار في فيتنام، حصل كيسنجر على جائزة نوبل للسلام عام 1973.

 

مارس الواقعية السياسية، حيث لعب كيسنجر دورًا بارزًا في السياسة الخارجية للولايات المتحدة بين عامي 1969 و1977. خلال هذه الفترة، كان رائدًا في سياسة الانفراج الدولي مع الاتحاد السوفييتي، ونسق افتتاح العلاقات الأمريكية مع جمهورية الصين الشعبية، وانخرط في ما أصبح يُعرف باسم دبلوماسية الوسيط المتنقل في الشرق الأوسط لإنهاء حرب أكتوبر، والتفاوض على اتفاقيات باريس للسلام، وإنهاء التدخل الأمريكي في حرب فيتنام.. بعد تركه الحكومة، أسس شركاء كيسنجر، وهي شركة استشارات جيوسياسية دولية. كتب كيسنجر أكثر من اثني عشر كتابًا في التاريخ الدبلوماسي والعلاقات الدولية.

 

وخلال دراستي في كلية كامبر الملكية بإنجلترا، وبعد انتهاء الفصل الدراسي الأول، طلبت الكلية من كل طالب أن يختار كتابًا من المكتبة ويقوم بتلخيصه، ويقدمه كورقة دراسية سوف يتم تقييمه كأحد المهام الدراسية. وأن أحسن خمس أعمال سوف يتم عرضها على طلبة الكلية بالكامل.

لذلك ذهبت إلى المكتبة، واخترت كتابًا لهنري كيسنجر، كان في ذلك الوقت من أشهر السياسيين في العالم، خاصةً أنه في هذا التوقيت كان قد حصل على جائزة نوبل. وقمت باختيار كتابه “كيف تدار السياسة الخارجية الأمريكية” ( The American Foreign Policy)، والحمد لله نال تلخيص الكتاب ليكون أحد أحسن خمس ورقات للدارسين في الدورة، وتم عرض التلخيص على كل طلبة الكلية.

أما على المستوى الشخصي، فقد استمتعت تمامًا بهذا الكتاب، والذي كان أساسًا في تحليل الفكر الاستراتيجي طوال حياتي خاصة حول السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية.

كان من أهم ما قدمه هنري كيسنجر للعالم فكرة الطبق الساخن (The Hot Plate). وببساطة يمكن أن نشرح هذا الموضوع بقصة حدثت خلال التخطيط لحرب أكتوبر. عندما طلبت القوات المسلحة من الرئيس السادات أن يشارك في خطة الخداع الاستراتيجي للحرب، على أساس أن يرسل رسالة إلى جولدا مائير أن مصر لن تحارب.

وبالفعل بدأ السادات فكرته بأن قام مستشاره للأمن القومي حافظ إسماعيل بالاتصال بهنري كيسنجر وطلب منه لقاء خاص على العشاء. وبالفعل تمت المقابلة في باريس، حيث نقل حافظ إسماعيل رسالة من السادات إلى هنري كيسنجر يطلب منه أن يفعل شيئًا لحل المشكلة بين مصر وإسرائيل، حيث كانت مصر في ذلك الوقت في فترة حرب الاستنزاف، والتي استمرت لمدة ست سنوات، وأُطلق عليها فترة “اللا سلم واللا حرب”.

وفهم كيسنجر الغرض من هذه الزيارة، لذلك عندما وصل إلى المطعم، همس في أذن من يقدم الطعام وطلب منه أن يكون طبق لحم الستيك الذي يُقدّم للضيف، وهو حافظ إسماعيل، أن يكون باردًا.

وبالفعل، وصل حافظ ووجد أن طبق الستيك بارد، وكان من الصعب تناوله. وهنا نظر إليه كيسنجر، وقال له: “يا عزيزي، إن طبقك بارد، لذلك لا يمكن أن تتناوله، وكذلك في السياسة، نحن لا نقترب من الطبق البارد.”

وهنا نادى كيسنجر على مقدم الطعام وقال له: “يجب أن يتم تغيير الطبق من اللحم الستيك البارد ليكون ساخنًا.”

وهنا كان الدرس الذي قدمه هنري كيسنجر. ونظرية الطبق الساخن ليست فقط في الطعام، ولكن في السياسة كذلك. ولذلك، طالما كانت الأوضاع على جبهة قناة السويس باردة، فهي لا سلم ولا حرب، لذا يجب أن تتحول إلى طبق ساخن، ويجب أن يشتعل القتال حتى يبدأ الجميع في التعامل مع الموقف. يا عزيزي، هذه سياسة الـ Hot Plate. أي أنه يجب أن تتحول منطقة القناة مع إسرائيل إلى حرب ساخنة، حتى يمكن أن يتدخل الجميع ونبدأ في التفكير في أن نجد حلاً لهذه المشكلة. لأن إسرائيل لا شك أنها سعيدة بهذا الوضع، فهي تحتل سيناء بالكامل، والعلم الإسرائيلي فوق قناة السويس، وما الذي يمكن أن يحرك هذه المشكلة إلا أن يكون “طبق ساخن”، إلا أن تشتعل المنطقة.

وعاد حافظ إسماعيل إلى مصر، وأبلغ السادات بذلك. وهنا فرح السادات لأن هنري كيسنجر ابتلع الطعم، وما علينا إلا أن ننتظر ونرى. وبعد ذلك بأسبوعين طلب هنري كيسنجر مقابلة حافظ إسماعيل مرة أخرى، وبلّغه أن السادات مقتنع بذلك الرأي.

ولكن للأسف، لقد خذلنا الاتحاد السوفيتي، ورفض إمداد مصر بأسلحة هجومية، لذلك قام السادات بطرد الخبراء السوفيت من مصر. ولم يعد لدينا غيرك يا كيسنجر لكي تحل هذه المشكلة، مثلما فعلت مع أمريكا في فيتنام، وقمت بحل أكبر مشكلة واجهت أمريكا في العصر الحديث.

وابتلع هنري كيسنجر الطعم، واتصل على الفور بالسيدة جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل، وأبلغها أن السادات غير قادر على الحرب، ويجب أن نفكر في حل سلمي.

واقترحت جولدا مائير أن تنسحب إسرائيل من على ضفة القناة إلى العمق في سيناء 30 كيلومترًا على مدخل المضايق، لكي تعيد مصر تشغيل قناة السويس، على أن تأخذ إسرائيل 50% من داخل القناة.

واقتنعت جولدا مائير بأن مصر لن تحارب. حتى أن فيلم جولدا مائير الذي أنتجته هوليوود في العام الماضي، وعرض انه في يوم 6 من أكتوبر 1973، 10:00 صباحًا، عندما أبلغها رئيس الأركان الإسرائيلي أن الحشود المصرية على قناة السويس توضح أن مصر سوف تهاجم، وأنه يطلب الآن تنفيذ ضربة استباقية لتدمير القوات المسلحة المصرية قبل الهجوم.

لكنها قالت له: “إن المصريين لن يهاجموا، لقد أبلغني هنري كيسنجر بذلك، وأنا أثق به.”

وعندما جاءت الثانية ظهرًا وبدأ الهجوم المصري، وجدت جولدا مائير أنها تم خداعها بفضل الرئيس السادات رحمه الله.

ولكن تظل نظرية الطبق الساخن الذي قدمها هنري كيسنجر للفكر الاستراتيجي العالمي، نظرية يتم العمل بها في كل الأوقات. وهذا ما أظهرته مؤخرًا العديد من التحليلات، أن عملية المقاومة الفلسطينية يوم 7 من أكتوبر كانت بفكرة الطبق الساخن، حيث حرّكت الأوضاع في المنطقة، وبدأ الجميع يبحث عن حل للمشكلة الإسرائيلية الفلسطينية.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

Breaking News